القرآن الكريم بين الجملة والتفريق نزولا
الشيخ ستار الحميد العبادي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف المرسلين ابي القاسم محمد واله الطاهرين.
ان القرآن الكريم هو دستور الحياة او الكون كله بحيث ما ترك الكتاب صغيرة ولا كبيرة ولا ظاهرة ولا باطنة الا وجعل لها حكما او قانونا يتعامل معها تعاملا حسب ما تقتضيه الشريعة السماوية، فجعل للانسان احكاما وتكاليف تؤهله لان يعمر الارض وفق ما اراد الله تعالى، فلا يمكن بحال من الاحوال ان يتركه سدى او يخلي بينه وبين نفسه، وبطبيعة المصنوع يحتاج الى صانعه كما لو صنع المهندس السيارة او الطائرة او الماكنة فطبيعة الحال اذا اصبح عطلا فيها لا يمكن ان يصلحها الا من صنعها او يعرف في تفاصيلها، فلا يمكن للخباز او القصاب ان يعمرها لانه ليس صانعها، وبهذا لايمكن للانسان ان يستغني بدون صانعه وخالقه، فانه دائما بحاجه دائميه له.
وبما ان تركيبة الانسان المادية والروحيه (العقليه والنفسيه) تحتاج من يرسم له الاحكام لكي يسير عليها سواءً كانت هذه الاحكام فقهية دينية او احكام معاملية اجتماعية تخص الفرد نفسه او تخص الاخرين، لهذا انزل الله تعالى القران الكريم فيه تبيانا لكل شيء، ما هناك شي يحتاجه الانسان الا وفيه حكم او واقعة او حدث يذكره، ولكل امة لها تكاليفها من زمن ادم (سلام الله عليه) الى زمن الخاتم (صلى الله عليه واله)، منها بقت ولم تتغير ولم تنسخ ومنها نسخت لحكمة ربانية تقتضي ذلك، ومنها تخص بمنطقة او بمجتمع معين ومنها تختص بجغرافيه معينه، ومنها تختص ليس فقط الانسان ككل بل تتعدى الى غيرذلك للجن والانس بل للكون باكمله، كما جاءت شريعة المصطفى (صلى الله عليه واله) كان بشير للعالمين كافة ويقصد العوالم كلها وهو الدين الشامل للجميع.
القرآن الكريم نعمة السماء إلى الأرض، وحلقة الوصل بين العباد وخالقهم، نزل به الروح الأمين على قلب رسوله الكريم (صلى الله عليه واله) بالحق، ليكون للعالمين نذيراً وهادياً ونصيراً، قال تعالى: {يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا} (النساء: 174).
وكيفية نزول القرآن على خير خلق الله محمد (صلى الله عليه واله وسلم) من الأمور التي تستوقف المؤمن وتلح عليه بالسؤال، كيف نزل القرآن الكريم؟، وما هي المراحل التي استغرقها نزوله؟، وهل نزل جملة واحدة على قلب رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم)؟ أم نزل على فترات متباعدة؟.
فنقول: الذي عليه أهل العلم أن القرآن الكريم نزل من عند الله (سبحانه وتعالى) على قلب رسوله (صلى الله عليه واله) على فترات متقطعة، ولم ينزل عليه جملة واحدة.
وقد كان كفار قريش يتشوفون إلى نزوله جملة واحدة، كما أخبر عنهم الله تعالى فقال: {وقال الذين كفروا لولا نزِّل عليه القرآن جملة واحدة} (الفرقان:32 ) إلا أن الله سبحانه – وهو أعلم بما هو أوفق لرسالته وأصلح لعباده – أراد أن ينـزل القرآن مفرقاً؛ وذلك لحِكَم متعددة، تارة تنزل اية في الليل وتارة في النهار، وتارة تنزل لواقعة معينة.
مثلا نزول اية الولاية على امير المؤمنين لحدث عندما يتصدق في خاتمه (انما وليكم الله ورسوله والذين امنوا الذين يقيمون الصلاة وياتون الزكاة وهم راكعون)، اوقضية تبليغ الرسالة ووصية النبي (صلى الله عليه واله) يوم واقعة الغدير او خم حيث قال الرسول (صلى الله عليه واله): من كنت مولاه فهذا علي مولاه، فنزلت الاية الكريمة ( يايها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك … والله يعصمك من الناس)، هذه وغيرها من الايات لها وقت معين وحدث معين، حتى (سال سائل بعذاب واقع من الله…) فوقع حجر في ساعتة ومات.
منها ما ذكره سبحانه في الآية نفسها، فقال: {كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً} (الفرقان:32) فتثبيت قلب النبي (صلى الله عليه واله وسلم) كان حكمة بالغة من الحِكَم الذي نزل لأجلها القرآن مفرقاً.
ومن الآيات التي تبين أن القرآن نزل على نبينا (صلى الله عليه واله وسلم) مفرقاً – إضافة للآية السابقة – قوله تعالى: {وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا} (الإسراء:106)، وفي هذه الآية حكمة أخرى من نزول القرآن مفرقاً، وهي نزوله على تمهل، ليكون ذلك أدعى إلى فهم من يسمعه ويستمع إليه.
أما عن القدر الذي كان ينزل من القرآن على رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) فالصحيح الذي دلت عليه الأحاديث أنه كان ينزل على حسب الحاجة أو الواقعة، فقد كان ينـزل عليه خمس آيات أو عشر أو أكثر من ذلك أو أقل، وربما نزل عليه آية واحدة أو بعض آية.
وقد صح في الحديث المتفق عليه نزول آيات قصة الإفك جملة واحدة، وهي عشر آيات من قوله تعالى: {إن الذين جاؤوا بالإفك} إلى قوله تعالى {ولولا فضل الله عليكم ورحمة وأن الله رؤوف رحيم}؛ وصح في الحديث نزول بعض آية عليه (صلى الله عليه واله وسلم)، كما ثبت عند الفريقين من حديث البراء بن عازب أنه قال: لما نزل قوله تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} (النساء:95) دعا رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) زيداً فكبتها، فجاء ابن أم كلثوم فشكا ضرارته، فأنزل الله: {غير أولي الضرر} (النساء:95).
واما نزوله في ليلة القدر فيكون نزوله دفعة واحدة والآراء في هذه المسألة:
قيل: القران الذي هو اللوح المحفوظ على قلب النبي الكريم، والاتفاق ان نزوله جملة واحدة في شهر رمضان في ليلة القدر بعد التشريع ونزول السورة الكريمة: (بسم الله الرحمن الرحيم انا انزلناه في ليلة القدر وما ادراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من الف شهر تنزل الملائكة والروح فيها من كل امر سلام هي حتى مطلع الفجر) من خلال تفسير هذه الاية القرانية عند العلماء انه نزل القران كله في هذه الليلة المباركة.
أما عن كيفيات نزول الوحي عليه (صلى الله عليه واله وسلم) فقد ذكر العلماء لذلك عدة كيفيات، نذكر منها ما يلي:
اما من خلال جبرئيل مباشرة، او من خلال صوت غير مباشر، او من خلال الرؤيا - وكل رؤيا الانياء والأئمة المعصومين صادقه -، او من خلال الالهام في القلب يقذف الله نور الحق والبصيرة والاعجاز.
وقد يأتيه الوحي بصورة رجل - كصورة دحية الكلبي - يلقي إليه كلام الله.
اما عن كيفية الوحي، فقال: (وأحيانا يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول)، فإن المَلَك قد تمثل رجلاً في صور كثيرة، ولم ينفلت منه ما أتاه به، كما في قصة مجيئه في صورة دُحية الكلبي وفي صورة أعرابي، وغير ذلك من الصور، وكلها ثابتة عند الفريقين.
وقد يأتيه الوحي بطريق كلام الله في اليقظة، كما في حديث الإسراء.
والأمر المهم في هذا السياق، الذي يجب اعتقاده والإيمان به، أن جبريل (عليه السلام) نزل بألفاظ القرآن المعجزة من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس، وأن تلك الألفاظ هي كلام الله سبحانه، لا مدخل لجبريل ولا لنبينا في إنشائها ولا في ترتيبها، بل هي كما أخبرنا الله عنها بقوله: { كتاب أُحكمت آياته ثم فُصِّلت من لدن حكيم خبير } (هود:1)، فالألفاظ القرآنية المقروءة والمكتوبة هي من عند الله سبحانه، ليس لجبريل فيها سوى نقلها لرسول الله (صلى الله عليه واله وسلم)، (ما ينطق عن الهوى ان هو وحي يوحى)، وليس للرسول فيها سوى وعيها وحفظها وتبليغها ثم بيانها والعمل بها، قال تعالى: { وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين } (الشعراء:192-194)، فالمتكلم هو الله، والناقل هو جبريل، والمتلقي هو رسول رب العالمين، ومن اعتقد غير ذلك، فقد ضل سواء السبيل، نسأله تعالى العصمة والثبات على الحق والاعتصام بحبله المتين والتمسك بكتابه المبين وبرسوله الامين محمد وآله الطاهرين.